||
اخر ألاخبار
المتواجدون حالياً
المتواجدون حالياً :36
من الضيوف : 36
من الاعضاء : 0
عدد الزيارات : 35362594
عدد الزيارات اليوم : 9134
أكثر عدد زيارات كان : 59321
في تاريخ : 18 /01 /2020
سمو الدستور وكفالة احترامه

من المبادئ الدستورية المسلم بها ، سمو الدستور وأعلويته على كافة القواعد القانونية النافذة في الدولة ، بغض النظر عن كون الدستور مدون أو غير مدون ،وهذا المبدأ من الحقائق الثابتة وإن أغفل الدستور النص عليها .

وتأكيد لهذا المبدأ جاء النص عليه صريحا في العديد من الدساتير ، كالدستور التشجوكسلوفاكي لسنة 1920والإيطالي لسنة 1947 والصيني لسنة 1945 والسوفياتي لسنة 1977.

وسمو الدستور من خصائص الدولة القانونية ، إذ لا سبيل لإخضاع الحكام للقانون وتحديد صلاحياتهم والحد من سلطاتهم ، ما لم تتهيأ للنصوص الدستورية مكانة عليا تسمو على الحكام وتخضعهم لأحكامها.

في حين إن هذا المبدأ لا مكان له في السلم القانوني في الدول ذات الأنظمة الدكتاتورية ، إذ لا يعترف الحاكم في هذه الأنظمة بالدستور ولا بغيره من القوانين وتتصف أعمالهم غالبا بالعنف والاستبداد.

ويتطلب سمو الدستور خضوع الكافة لأحكامه ، حكاما ومحكومين ، هذا إضافة إلى ضرورة إيجاد الطرق والوسائل الكفيلة باحترام أحكامه من قبل الأفراد وهيئات الدولة المختلفة .

المبحث الأول : سمو الدستور

يقصد بمبدأ سمو الدستور ، أعلوية القواعد الدستورية وسيادتها على سائر القواعد القانونية الأخرى في الدولة .

ويقسم سمو الدستور ، إلى سمو موضوعي وشكلي ويقصد بالسمو الموضوعي  أعلوية الأحكام والمبادئ المنصوص عليها في الوثيقة الدستورية على سائر الأحكام الواردة في القوانين الأخرى .

أما السمو الشكلي فيقصد به وجوب أتباع إجراءات وأوضاع معينة في وضع القواعد الدستورية وتعديلها تختلف عن تلك التي يجري أتباعها في وضع وتعديل القوانين العادية .

المطلب الأول ك السمو الموضوعي للدستور

يمكن السمو الموضوعي للدستور في طبيعة ومضمون القواعد التي يتضمنها ، وكذلك في طبيعة الموضوعات التي ينظمها ، فهو يمثل سند شرعية السلطات الحاكمة ، وينظم اختصاصاتها وكيفية ممارستها ، ويحدد الفلسفة أو الأيديولوجية التي يؤمن بها القابضون على السلطة .

ويتجلى السمو الموضوعي للدستور في مظهرين :

المظهر الأول: الدستور هو السند الشرعي لوجود الهيئات الحاكمة في الدولة ، وهو الذي يحدد اختصاصاتها ، من هنا كان على كافة السلطات والهيئات الحاكمة الخضوع لأحكام الدستور خضوعا تاما وأحترم أحكامه في كل ما يصدر عنها من أعمال وتصرفات ، بحكم سموه وعلوه عليها ، إذ هو الذي أنشأها ومنحا اختصاصاتها .

المظهر الثاني: تحديد الفكرة القانونية للدولة ، فالدستور هو الذي يتولى تحديد الفكرة القانونية السائدة في الدولة ، والفلسفة أو الأيديولوجية التي يقوم عليها النظام القانوني في الدولة سواء من الناحية السياسية أو الأقتصادية أو الاجتماعية .

على ذلك إن كل نشاط يخرج عن حدود هذا الإطار أو يخالفه يعد باطلا ، بيد أن ذلك لا يعني تحريم كل الاتجاهات والتصورات الفلسفية المناقضة للدستور ، غاية الأمر إنها لا تأخذ الصفة الرسمية إلا بأتباع الإجراءات التي نص عليها الدستور ، فهو يسمح لهذه الفلسفات أن تحتل مكانها في المعارضة وإن كان ذلك على درجات تتفاوت النظم السياسية .

النتائج المترتبة على السمو الموضوعي :

يترتب على السمو الموضوعي للقواعد الدستورية النتيجتين التاليتين :

النتيجة الأولى: تدعيم مبدأ المشروعية : من المسلم به أن المسلم به أن السمو الموضوعي للدستور يؤدي إلى تدعيم مبدأ المشروعية ، ويجعل القاعدة الدستورية في أعلى سلم التدريج القانوني .

وإذا كان مبدأ المشروعية يعني خضوع الحكام والمحكومين للقانون ، بحيث لا يصدر أي قرار فردي إلا في حدوده ( القانون) فإن سمو الدستور يدعم ويقوي هذا المبدأ ( المشروعية ) ويوسع من نطاقه ، لأنه يتطلب خضوع الحكام والمحكومين لقواعده من ناحية ، وخضوع كافة التشريعات واللوائح والقرارات الإدارية لأحكامه من ناحية أخرى .

النتيجة الثانية : حظر التفويض في الاختصاص : يحدد الدستور اختصاصات كل سلطة على وجه التحديد ، وهذه الاختصاصات لا تعد حقوقا شخصية أو مزايا خاصة لمن يمارسها بل واجبات يجب أداؤها في الحدود  التي رسمها القانون .

والدستور حينما يخول إحدى الهيئات الحاكمة اختصاصا معينا فإنه يحظر عليها في ذات الوقت تفويض ذات الاختصاص إلى هيئة أخرى على أساس إن الاختصاصات المفوضة لا تقبل التفويض هذا إضافة إلى أنه يراعي في توزيع لأي هيئة تفويض اختصاصاتها لهيئة أخرى إلا بنص دستوري صريح يجيز التفويض ، وبغير ذلك يعد التفويض غير مشروع كونه يخالف نصوص الوثيقة الدستورية الآمرة .

ومن الدساتير التي أجازت التفويض صراحة ، الدستور الروسي لسنة 1993، والدستور الهندي لسنة 1949، والدستور المصري النافذ لسنة 1971، حيث نصت المادة ( 108) منه على أنه (لرئيس الجمهورية عند الضرورة وفي الأحوال الاستثنائية وبناء على تفويض مجلس الشعب بأغلبية ثلثي أعضائه أن يصدر قرارات لها قوة القانون ، ويجب أن يكون التفويض لمدة محددة وأن تبين فيه موضوعات هذه القرارات و الأسس التي تقوم عليها ويجب عرض هذه القرارات على مجلس الشعب في أول جلسة بعد انتهاء مدة التفويض ، فإذا لم تعرض او عرضت ولم يوافق عليها المجلس زال ما كان لها من قوة القانون) .

وفي الدستور الأردني النافذ لم ترد أية إشارة إلى التفويض ، وبالتالي ليس لأي من الهيئات الحاكمة تفويض صلاحياتها لهيئة أخرى ، سواء في الظروف العادية أو الاستثنائية ، وإلا عد ذلك خرقا للدستور ، مع ملاحظة أن نص المادة ( 28/ ح ، ط) من الدستور تشير إلى الإنابة في أحوال استثنائية ن فقد نصت الفقه ( ح / 28) على أنه ( إذا أصبح الملك غير قادر على تولي سلطته بسبب مرضه فيمارس صلاحياته نائب أو هيئة نيابية ويعين النائب أو الهيئة النيابية بإرادة ملكية وعندما يكون الملك غير قادر على إجراء هذا التعيين يقوم به مجلس الوزراء ) وتنص الفقرة ( ط /28) على أنه ( إذا أعتزم الملك مغادرة البلاد فيعين قبل مغادرته بإرادة ملكية نائبا أو هيئة نيابية لممارسة صلاحياته مدة غيابه ، وعلى النائب أو هيئة النيابة أن تراعي أية شروط قد تشتمل عليها تلك الإدارة وإذا أمتد غيابك الملك أكثر من أربعة أشهر ولم يكن مجلس الأمة مجتمعا يدعي حالا إلى الاجتماع للنظر في الأمر ).

المطلب الثاني : السمو الشكلي للدستور

يقصد بالسمو الشكلي وجوب أتباع إجراءات وأشكال معينة في تعديل الدستور ، تختلف عن تلك المتعبة في تعديل القوانين العادية على ذلك لا يمكن الحديث عن السمو الشكلي ، إلى في ظل الدساتير المدونة الجامدة ، باعتبار أن الدساتير غير المدونة المرنة لا تتمتع إلا بالسمو الموضوعي .

ويذهب جانب من الفقه إلى أن السمو الشكلي ( جمود الدستور) هو الذي يضفي على القواعد الدستورية سموا وعلوا ، ويهيئ لها مركزا خاصا أسمى من القواعد القانونية الأخرى ، فتحتل المكانة العليا في سلم التدريج الهرمي والنظام القانوني للدولة .

والجدير بالذكر أن السمو الدستوري الشكلي يمتد إلى كافة نصوص الدستور بغض النظر عن طبيعتها أو مضمونها ، وعلى سبيل المثال ، إن المادة (1/8) من الدستور الأمريكي تخول الكونغرس صلاحية إصدار القوانين التي من شأنها تقدم العلوم والفنون النافعة عن طريق ضمان الحق المطلق لمدة محددة للمؤلفين والمخترعين في كتابتهم واختراعاتهم ، وتحدد المادة ( 1/2) من الدستور شروط الترشيح لعضوية مجلس النواب وتحدد المادة ( 2/6) شروط الترشيح لمصب الرئاسة ، فهذه النصوص الثلاث التي أشرنا إليها تتباين من حيث الأهمية إلا أنها جمعا تعدل بذات الشكل والإجراءات ، إذ يلزم لتعديلها موافقة ثلثا مجلس النواب والشيوخ ، أو أن تعديل بناء على اقتراح المجالس التشريعية لثلثي الولايات ، ولمرور هذا الاقتراح لابد من الحصول على موافقة المجالس التشريعية لثلاثة أرباع الولايات عن طريق عقد مؤتمر وطني .

وحددت المادة ( 54/1) من الدستور الألماني شروط الترشيح لمنصب الرئاسة ، أما المادة ( 73/6) فقد نظمت شؤون السكك الحديدية الاتحادية والنقل الجوي ، ولتعديل أيا من هذين النصين لا بد من موافقة ثلثا أعضاء مجلسي البوندستاج ( النواب ) والبنديسرات ( الولايات) .

وبالمقابل أن السمو الشكلي لا يمتد إلى القواعد القانونية العادية ، وإن كانت ذات طبيعة دستورية ، كقانون السلطة التنفيذية وقانون مجلس التواب .

ومجمل القول إن السمو الشكلي للدستور لا يمكن أن يتحقق إلا في ظل الدساتير الجامدة ، لأن الدساتير المرنة يجري تعديلها بذات الأشكال والإجراءات المتبعة في تعديل القوانين العادية ، بل أن إصدار السلطة التشريعية قانون جديد أو تعديل قانون نافذ بما يتعارض وأحكام الدستور يعد تعديلا له .

المطلب الثالث : التمييز بين القوانين الدستورية والعادية

ظهر التمييز بين القوانين العادية والدستورية  في القرن السابع عشر ، حيث أطلق الفقه آنذاك على القوانين الدستورية ، القوانين الأساسية باعتبارها المظهر الأساسي المعبر عن سيادة الأمة ، هذا إضافة إلى أنها قوانين تتعلق بتنظيم السلطات العامة وصلاحيتها .

ويبرز التباين بين القوانين العادية والدستورية من حيث الشكل والموضوع :

اولا: من حيث الشكل

أن نقطة الخلاف الأولي بين القوانين العادية والدستورية ، هي من حيث الإجراءات المتبعة في التشريع والتعديل فالقانون الدستوري يجري تشريعه عادة أما بأسلوب المنحة أو العقد أو الجمعية التأسيسية أو الاستفتاء الدستوري في حين يجري تشريع القانون العادي من قبل البرلمان ، وغالبا ما يستغرق تشريع القانون العادي .

أما من حيث إجراءات التعديل ، فإن إجراءات تعديل القانون الدستوري أكثر تعقيدا من إجراءات تعديل القانون العادي وعلى سبيل المثال إن المادة (126) من الدستور الأردني اشترطت موافقة ثلثي كل من مجلس النواب والأعيان سواء اجتماعا في جلسة مشتركة أو جرى التصويت على المشروع في كل مجلس على حده ، في حين اكتفت المادة ( 84) من الدستور لتعديل القانون العادي الحصول على الأغلبية المطلقة للحاضرين في كل من مجلس النواب والأعيان بعد تحقق النصاب القانوني لصحة انعقاد كل من المجلسين وهو حضور ثلثي أعضاء كل مجلس .

وأوجبت المادة ( 84/3) من  الدستور أن يجري التصويت على تعديل الدستور بصوت عالي بالمناداة على الأعضاء بأسمائهم في حين لا يشترط ذات النص التصويت العلني على تعديل القانون العادي .

وبموجب المادة ( 93) من الدستور يحال مشروع تعديل الدستور والقانون العادي على الملك لإصداره والأمر بنشره في الجريدة الرسمية ، وللملك الاعتراض التوقيفي على القانون العادي ، فإذا أصر مجلس النواب والأعيان في جلسة المناقشة الثانية على مشروع القانون وحصل المشروع على تأيد ثلثي كل من المجلسين ، كان على الملك إصداره ، في حين يملك الملك حق الاعتراض المطلق ( الاسقاطي ) على تعديل الدستور ، فإذا ما أحال مجلسي النواب والأعيان اقتراح تعديل الدستور على الملك واعتراض عليه سقط هذا المشروع تلقائيا إذا لا سبيل لإصرار مجلس النواب والأعيان عليه .

ثانيا : من حيث الموضوع

تختلف طبيعة الموضوعات التي يعالجها القانون الدستوري عن تلك التي يعالجها القانون العادي ، فالقانون الدستوري يحدد  الإطار الفلسفي والأيديولوجي والقانوني الذي تعمل في ظله سلطات الدولة والهيئات الحكومية ، كما يحدد تشكيل تلك الهيئات وصلاحياتها والعلاقة بينها ، وينظم الحقوق والحريات العامة وضماناتها ، في حين يعالج القانون العادي موضوعات لا علاقة لها بالنظام السياسي في الدولة ، كالقانون المدني والجنائي والأحوال الشخصية ، وما إلى ذلك من القوانين الأخرى .

المطلب الرابع : النتائج المترتبة على التميز بين القوانين الدستورية والعادية

يترتب على التمييز السالف الذكر بين القوانين الدستورية والعادية النتائج التالية :

  • ثبات القوانين الدستورية أكثر من القوانين العادية :

تتسم القوانين الدستورية بكونها أكثر ثباتا واستقرارا من القوانين العادية ، وهي نتيجة منطقية يؤدي إليها المجرى العادي للأمور بفعل اشتراط إجراءات وشكليات في تعديل الدستور أكثر تعقيدا من تلك الواجب أتباعها في تعديل القانون العادي .

والجدير بالملاحظة إن ثبات القوانين الدستورية واستقرارها أمر نسبي غير مطلق ، فما من دستور في العالم إلا ويمكن تعديله ، والقول بغير ذلك يعني خلق فجوة دستورية تنعكس آثارها بصورة مباشرة على النظام السياسي في الدولة ، واستقرار الأوضاع الداخلية ، وهذا ما يتنافى والغاية من وضع الدستور أصلا ، بل أن من الدساتير من جرى تعديله حتى قبل نفاذه ، ومن ذلك الدستور الأمريكي الذي عدل قبل نفاذه ولم يكن ذلك يتعارض مع صفة الجمود التي يتسم بها فهذا الدستور ظل نافذا ما يربو على المائتان وعشرون سنة ولم يعدل إلا ست وعشرون مرة فقط .

  • عدم جواز تعديل القانون الدستوري إلى بقانون دستوري أخر :

إن من نتائج سمو القوانين الدستورية على القوانين العادية ، عدم جواز تعديلها أو إلغائها إلا بقوانين أخرى مماثلة لها في المرتبة ، وتتمتع بنفس الدرجة من السمو ، وهذا يعني أنه ليس للقوانين العادية تعديل القوانين الدستورية ن لكونها أدنى منها مرتبة والقواعد في ذلك إن القانون الأدنى لا يلغي أو يعدل القانون الأعلى منه درجة .

والواقع إن هذا المبدأ لا يجري العمل به إلا في الظروف العادية أي حينما تعيش الدولة في ظل ظروف داخلية وخارجية مستقرة ، وبخلاف ذلك قد يجري إلغاء أو تعديل الدستور بقرار فردي ، وهو ما يحدث عادة عند قيام ثورة أو وقوع انقلاب .

 

  • عدم جواز مخالفة القوانين العادية للقوانين الدستورية :

إن ما يميز الدستور المرن والجامد الإجراءات والشكليات الواجب أتباعها في التعديل ، فإذا لم يشترط المشروع الدستوري إجراءات خاصة في تعديله ،تختلف عن تلك الواجب إتباعها في تعديل القانون العادي كان الدستور مرنا ، وتعد أي مخالفة لأحكامه من قبل المشروع العادي تعديلا له .

في حين تعد مخالفة القانون العادي لأحكام الدستور الجامد، خرقا لمبدأ المشروعية والتدرج القانوني الواجب مراعاته في التشريع ، وبالتالي يكون مصير القانون البطلان سواء نص الدستور على ذلك صراحة أم لم ينص باعتبار أن هذا الحكم نتيجة منطقية لعدم مراعاة مبدأ التدريج القانوني .

المبحث الثاني : كفالة احترام سمو الدستور

لا تثار مسألة كفالة احترام الدستور إلا في ظل الدساتير الجامدة ، حيث يلزم لتعديل الدستور إجراءات خاصة تختلف عن الإجراءات الواجب إتباعها لتعديل القانون العادي .

وإذا كان من المسلم به في ظل الدساتير الجامدة إن القوانين المخالفة للدستور تعد باطلة ، إلا أن البحث يثار بشأن السلطة المختصة بتقرير بطلان القوانين التي تخرج عن أحكام الدستور ، وهذه السلطة بالضرورة هي سلطة مستقلة عن السلطة التشريعية مهمتها مراقبة مدى مطابقة القوانين للدستور ( الرقابة على دستورية القوانين ) .

وتختلف الرقابة على دستورية القوانين باختلاف الدساتير ، إلا أن الغالب في الرقابة أما أن يجري ممارستها من قبل هيئة سياسية مستقلة ، أو من قبل القضاء ، وسوف نبحث تفصيلا في هذين الأسلوبين من أساليب الرقابة .

المطلب الأول: الرقابة السياسية على دستور القوانين

يتم ممارسة هذا النوع من الرقابة ، من قبل هيئة سياسية منفصلة عن باقي سلطات الدولة ، وغالبا ما يراعي في تشكيل هذه الهيئة تنوع الخبرات فيها ، حيث جرى العمل على أن تضم هذه الهيئة في عضويتها خبرات سياسية واقتصادية وقانونية .

ويجري تشكيل هذه الهيئة أم عن طريق التعيين من قبل السلطة التشريعية أو التنفيذية ، أو بالانتخاب من قبل الشعب ، وأيا كان الطريق المتبع في تشكيل هذه الهيئة ، فإن ما يميزها هو عدم تقيدها بوجود العناصر القضائية .

الفرع الأول : الرقابة السياسية على دستورية القوانين في فرنسا قبل دستور سنة 1946.

تعود الرقابة السياسية في نشأتها إلى فرنسا ، حيث تقدم الفقه الفرنسي أثناء مناقشة نصوص دستور سنة 1795، باقتراح استحداث هيئة محلفين دستورية ، مهمتها التحقق من مطابقة القوانين العادية للدستور ، واقتراح تشكيل هذه الهيئة من ( 108) عضوا يتم تعينهم أول مرة من قبل الجمعية التأسيسية ، وتتولى هذه الهيئة بعد ذلك تعيين أعضائها بنفسها عن طريق تجديد ثلث الأعضاء سنويا ، ونظرا لما خلفه القضاء من آثار سيئة في نفس الشعب الفرنسي، فقد أكد الفقيه إن الهيئة المقترحة هيئة سياسية وليست قضائية ، غير ان هذا المشروع قوبل بالرفض من قبل واضعي الدستور خشية أن تصبح هذه الهيئة سلطة فوق القانون .

وتقدم الفقيه بذات الاقتراح عند إعداد مشروع دستور سنة 1799، ووجد هذا الاقتراح قبولا من قبل لجنة إعداد الدستور واستحدثت هيئة بأسم مجلس الشيوخ الحامي للدستور ، وكان الاختيار الأول لأعضاء المجلس من قبل نابليون والقنصلين المؤقتين ، وحددت المادة ( 21) من الدستور مهمة هذا المجلس بنصها على أنه ( يبقي أو يلغي جميع الأعمال التي تطعن الحكومة أو المجلس النيابي أمامه بعدم دستوريتها ) .

غير أن الظروف والعوامل التي أحاطت بإنشاء هذا المجلس لم تساعد على نجاحه ، حيث كان يخضع للإمبراطور ( نابليون بونابرت ) من ناحية ، كما لم يكن لها ممارسة الرقابة إلا بناء على طلب الحكومة أو المجلس النيابي .

وجاء دستور سنة 1852 متضمنا النص على الرقابة على دستورية القوانين عن طريق هيئة سياسية أطلق عليها ( مجلس الشيوخ المحافظ على الدستور ) وخول هذه الهيئة صلاحية فحص مشاريع القوانين قبل إحالتها إلى رئيس الدولة لإصدارها ، إضافة إلى صلاحيتها في إلغاء القوانين بناء طلب الحكومة أو الأفراد إذا ثبت لها عدم دستوريتها .

وبالرغم من سعة الاختصاصات التي خولت لهذه الهيئة ، إلا أنها في الواقع لم تمارس شيئا منها ، فلم يحدث في العمل أن ألغى هذا المجلس قانونا عرض عليه لعدم دستوريته ، إذا خضعت هذه الهيئة لهيمنة الإمبراطور ( لويس نابليون) الذي حملها على عدم ممارسة اختصاصاتها بالترغيب والترهيب ، فقد استمت فترة حكم ( لويس نابليون ) بالاستبداد هذا إضافة إلى إغوائه أعضاء المجلس عن طريق المنح والعطايا لاسيما أن العضوية في الهيئة كانت دون مقابل .

وجاء دستور الجمهورية الثالثة الفرنسية لسنة 1875 خاليا من الإشارة للرقابة على دستورية القوانين ، ربما لأن هذا الدستور القوانين ، ربما لأن هذا الدستور كان موجزا ، إذ أحتوى على ( 34) مادة فقط أو لفشل الرقابة في ظل الدستوريين السابقين له .

الفرع الثاني : الرقابة على دستورية القوانين في ظل دستور الجمهورية الفرنسية الرابعة لسنة 1946.

أنشأ دستور الجمهورية الرابعة الفرنسية لسنة 1946 لجنة خاصة لممارسة الرقابة على دستورية القوانين، وأطلق عليها ( اللجنة الدستورية ) وتتألف هذه اللجنة من ثلاثة عشر عضوا هم :

1-    رئيس الجمهورية – رئيسا للجنة .

2-    رئيس الجمعية الوطنية .

3-    رئيس مجلس الجمهورية .

4-    سبعة أعضاء تنتخبهم الجمعية الوطنية من غير أعضائها .

5-    ثلاثة أعضاء ينتخبهم مجلس الجمهورية من غير أعضائه .

ومن استعرض تشكيل اللجنة الدستورية يبدو جليا الصبغة السياسية التي اصطبغت بها اللجنة ، هذا أضافه إلى تأثرها بالانتماءات الحزينة لأعضائها الأمر الذي أدى إلى تحول هذه اللجنة بعد فترة وجيزة من تشكيلها إلى مجرد هيئة تابعة للبرلمان خاضعة له فيما تصدره من قرارات .

وبموجب المادة ( 92) من الدستور لا تتصدي اللجنة لفحص دستورية القانون من تلقاء نفسها أو بناء على طلب الأفراد ، بل لابد من تقديم مشترك من قبل رئيس الجمهورية ورئيس مجلس الجمهورية قبل إصدار القانون، وتبدأ اللجنة عملها بمحاولة التوفيق بين مجلسي البرلمان خلال مدة خمسة أيام من تاريخ تقديم الطلب إليها وخلال مدة يومين في ا؛وال الضرورة والاستعجال فإذا وفقت اللجنة في ذلك انتهى الأمر ولم يعد ثمة حاجة للنظر في دستورية هذا القانون وإن كان الاتفاق بين هذين المجلسين مخالفا للدستور ، أما إذا لم تنجح اللجنة في هذه المهمة فعليها النظر في دستورية القانون ، فإذا توصلت إلى عدم دستوريته أعادته إلى الجمعية الوطنية وامتنع على الرئيس إصدار لحين إزالة التعارض بينه وبين الدستور ، أو  تعديل الدستور وفقا للإجراءات المقررة ، وبما يجعله متفقا مع القانون الصادر عن الجمعية الوطنية .

والملاحظ أن اللجنة بدلا من مراقبتها القوانين الصادرة عن البرلمان ، لجأت إلى رقابة الدستور ، وعملت على تعديله وبما ينسجم مع القانون المخالف له .

الفرع الثالث : الرقابة على دستورية القوانين في ظل دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة لسنة 1958.

نظم الدستور الفرنسي النافذ لسنة 1958، الرقابة على دستورية القوانين في المواد من ( 56-63) واستهدف المشرع الدستوري من وراء هذه الرقابة ، ضمان التطبيق السليم لنصوص الدستور ، لاسيما ما يتعلق بتوزيع الاختصاصات بين السلطة التشريعية والتنفيذية وكان يهدف من وراء هذه الرقابة إنشاء هيئة للتحكيم السياسي بين السلطات وبما يحقق التوازن بينها .

أولا : تشكيل المجلس الدستوري .

أشارت المادة ( 56) من الدستور إلى أن المجلس الدستوري يتألف من تسعة أعضاء يجري اختيارهم لمدة تسع سنوات غير قابلة للتجديد ، على أن يجري تجديد ثلث المجلس كل ثلاث سنوات .

ويتقاسم رئيس الجمهورية ورئيس الجمعية الوطنية ورئيس مجلس الشيوخ صلاحية تعين أعضاء المجلس ، حيث يختار كل منهم ثلاثة أعضاء هذا إضافة إلى أن هناك أعضاء معينون بحكم القانون لمدى الحياة وهم رؤساء الجمهورية السابقون .

ويجري اختيار رئيس المجلس من قبل رئيس الجمهورية ، وللرئيس ترجيح أحد الرأيين عند تساوي الأصوات بشأن مسألة معينة .

وليس لأعضاء المجلس الجمع بين العضوية في المجلس والاشتراك في الحكومة أو البرلمان أو المجلس الاقتصادي والاجتماعي ، كما لا يجوز تعينهم في وظائف عامة أو ترقيتهم بالاختبار أن كانوا موظفين عموميين .

ثانيا : اختصاصات المجلس الدستوري

نظمت المادة (61) من الدستور اختصاصات المجلس الدستوري، ويمكن تقسيم هذه الاختصاصات إلى نوعين هما :-

1-    اختصاصات إلزامية ( وجوبيه )

2-    اختصاصات اختيارية ( جوازيه )

 

  1. اختصاصات المجلس الإلزامية ( الوجوبية) أو جبت المادة (61) من الدستور عرض بعض المسائل على المجلس الدستوري وهذه المسائل هي :-
  • القوانين الأساسية .
  • لوائح المجلس النيابي .
  • سلامة إجراءات الاستفتاء وإعلان النتيجة .
  • سلامة الانتخابات الرئاسية والتشريعية .
  • تحديد حالات عجز رئيس الجمهورية بناء على طلب الحكومة .
  • تطبيق المادة ( 16) من الدستور.
  1. اختصاصات المجلس الاختيارية ( الجوازية )

وهذه الاختصاصات تعرض على المجلس على وجه الجواز :-

النظر في القوانين العادية بعد انتهاء التصويت عليها في البرلمان وقبل تصديقها ، وعلى المجلس بيان رأيه فيها خلال مدة ستة أشهر من تاريخ عرضها عليه .

1-    النظر في الطلب المقدم من قبل الوزير فيما إذا كان ثمة قانون قد أقر بعد صدور دستور سنة 1958 يدخل في المجال التشريعي أو اللائحي طبقا لنص المادة ( 34) من الدستور .

2-    لجوء الحكومة إلى المجلس الدستوري أثناء مناقشة مشروع قانون أمام البرلمان للبت في كون المشروع يدخل في اختصاص البرلمان أو الحكومة .

3-    إبداء الرأي في مدى اتفاق بنود المعاهدة أو الاتفاقية الدولية مع أحكام الدستور .

 

ثالثا: الطعن أما المجلس الدستوري

ينظر المجلس الدستوري في دستورية القوانين بناء على طلب رئيس الجمهورية أو رئيس الوزراء أو رئيس الجمعية الوطنية أو رئيس مجلس الشيوخ ، وبموجب القانون الدستوري رقم 74-904 الصادر في 9 اكتوبر 1974 خولت صلاحية الطعن أيضا لستين عضوا من أعضاء الجمعية الوطنية أو ستين عضوا من أعضاء مجلس الشيوخ.

ورقابة المجلس على دستورية القوانين ، رقابة وقائية سابقة لصدور القانون ونفاذه ، وبالتالي فهي تحول دون نفاذ أي قانون غير دستوري الأمر الذي يضع حدا لإثارة المنازعات بشأن الحقوق المترتبة على القانون المقضي بعدم دستوريته ، ومثل هذه المنازعات يمكن أن تثار لو كانت رقابة المجلس على القانون بعد نفاذه .

وألزمت المادة ( 62)من الدستور المدلس بإبداء الرأي في القانون خلال مدة شهر من تاريخ أحلته عليه ، وأجازت تقليص هذه المادة إلى ثمانية أيام بناء على طلب الحكومة في حالة الضرورة ، وقرارات المدلس نهائية لا يمكن الطعن فيها أمام أي جهة أخرى . وهي ملزمة لكافة السلطات في الدولة بما فيها السلطة القضائي.

والجدير بالذكر إن المجلس الدستوري ليس له النظر في دستورية القوانين التي يجري إقرارها عن طريق الاستفتاء العام ، كونها تعبر بصورة مباشرة عن السيادة الشعبية ولا مجال  حينئذ للنظر في دستوريتها ومن خلال الاستفتاء استطاع الرئيس ( ديجول) النفاذ من المجلس الدستوري وتعديل نصوص الدستور الخاصة باختيار رئيس الجمهورية ، حيث جعل هذا التعديل اختيار الرئيس يتم من قبل الشعب بصورة مباشرة .

الفرع الرابع : الرقابة السياسية على دستورية القوانين في دساتير الديمقراطيات الشعبية

تبنت العديد من الدساتير دول المعسكر الاشتراكي السابق ، الرقابة السياسية على دستورية القوانين ، إلا أنها تباينت في تحديد الجهة التي أوكلت لها مهمة الرقابة . وعلى التفصيل التالي :

أولا : الدساتير التي أوكلت مهمة الرقابة للسلطة التشريعية

أوكل الاتجاه الأول من الدساتير ، مهمة الرقابة السياسية على دستورية القوانين ، للسلطة التشريعية ، ومن بين هذه الدساتير ، دستور اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية لسنة 1936 ودستور الاتحاد السوفيتي الملغي لسنة 1977 حيث عهد كل منهما بهذه المهمة إلى مجلس السوفيت الأعلى .

وذهب بذات الاتجاه ، كل من الدستور البلغاري لسنة 1947 والصيني لسنة 1954 ودستور سنة 1982 حيث أوكل كل منهما هذه المهمة للمجلس الوطني لنواب الشعب .

ثانيا : الدساتير التي أوكلت مهمة الرقابة للمكتب الإداري في السلطة التشريعية

خول الاتجاه الثاني من الدساتير ذات النزعة الاشتراكية ، مهمة الرقابة السياسية ، للمكتب الإداري في البرلمان ، ومن هذه الدساتير دستور اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية المتحدة لسنة 1946، والدستور الألباني لسنة 1945 والتشيكوسلوفاكي لسنة 1948 ودستور ألمانيا الديمقراطية لسنة 1968.

ثالثا : الدساتير التي أوكلت الرقابة للمجلس الدستوري

أناط الاتجاه الثالث من الدساتير مهمة الرقابة السياسية على دستورية القوانين إلى لجنة مشكلة خصيصا لهذا الغرض ، ومن بين هذه الدساتير دستور ألمانيا الديمقراطية لسنة 1949حيث نصت المادة (66) منه على أنه ( يشكل المجلس الشعبي لجنة دستورية مهمتها النظر في دستورية القوانين ، ويمثل في هذه اللجنة مختلف الهيئات وحسب أهميتها ، إضافة إلى ثلاثة من أعضاء المحكمة العليا وثلاثة من الخبراء في القانون الدولي) .

المطلب الثاني : الرقابة القضائية على دستورية القوانين

ترمز الرقابة القضائية ، على صفة الهيئة التي تمارسها ، إذ تمارس هذه الرقابة من قبل السلطة القضائية ، وهذا النوع من الرقابة الأكثر شيوعا في العمل ، ويقوم على أساس تدخل الجهاز القضائي ، لإصدار حكم بمدى توافق أو عدم توافق تشريع معين من الدستور ، ونرى أن هذه الوظيفة تعد من صميم اختصاص الهيئة القضائية ، فالهيئة القضائية حينما تفصل في دستورية القوانين إنما تفضل في نزاع طرفاه قانونين أحدهما أعلى والأخر أدنى ، والحكم الصادر عن القاضي هو حكم لصالح أحد القانونين ضد الأخر.

وتمتاز الرقابة القضائية بالاستقلال والحياد والموضوعية المستمدة من استقلال القضاء وموضوعيته وبعده عن التأثر بالتيارات والأهواء الحزينة، كما أنها تمتاز بوجود قضاة مؤهلين بحكم تكوينهم للاضطلاع بمهمة فحص القوانين والفصل في مدى موافقتها أو مخالفتها لأحكام الدستور فضلا عما يوفره النظام القضائي من ضمانات للمتقاضين هدفها النهائي الوصول إلى الحقيقة المجردة ، وهو ما يكفله نظام الإجراءات القضائية ، من حرية التقاضي وحق الدفاع والترافع وعلانية الجلسات وتسبيب الأحكام وحق الطعن ، ومما لا شك فيه إن هذه الضمانات لا يمكن أن توفرها أية وسيلة رقابية أخرى .

والملاحظ أن هناك اتجاه دولي متزايد للآخذ بالرقابة القضائية على دستورية القوانين ، على حساب الرقابة السياسية ، ومثل هذا الاتجاه ساد حتى في الدول التي كانت تأخذ بالرقابة السياسية على دستورية القوانين، ففي فرنسا الوطن الام للرقابة السياسية ، ظهر اتجاه شعبي وسياسي يدعو إلى الآخذ بالرقابة القضائية إلى جانب الرقابة السياسية ، فقد تقدمت الحكومة سنة 1990باقتراح إلى اللجنة التشريعية ، في الجمعية الوطنية يدعو إلى منح الأفراد حق الطعن أمام المحاكم بعدم دستورية قانون معين أو نص منه ، في حدود القوانين التي تمس الحقوق الأساسية التي يتضمنها الدستور وإعلان حقوق الإنسان والمواطن الفرنسي وقوانين الجمهورية المتعلقة بالحريات العامة ، إلا أن هذا الاقتراح لم يكتب له النجاح ، وتغلبت الحجج التقليدية الفرنسية على هذا الاتجاه الجديد ، إذ قيل أن هذا الاقتراح سيخل بالتوازن بين السلطات ، وسوف ينتهي إلى إقامة حكومة قضاة في فرنسا .

الفرع الأول: نشأة الرقابة القضائية على دستورية القوانين

تعد الولايات المتحدة الوطن الأم للرقابة القضائية على دستورية القوانين ، بالرغم من أن الدستور الأمريكي لم ينص صراحة على منح هذه الصلاحية للمحاكم ، لكن هذا الحق تقرر بواسطة القضاء من جانب وتأيد الفقه من جانب أخر .

ومرت الرقابة القضائية في الولايات المتحدة بعدة مراحل قبل أن تصل إلى ما هي عليه الآن ، فكانت المحاكم في بادئ الأمر تطبق القوانين كما تصدرها المجالس التشريعية حتى سنة 1786، حيث رفضت محكمة ( رود ايسلند ) في قضية ( ترفيت ضد ويدن ) تطبيق قانون يقضي بجعل النقود الورقية عملة إلزامية لمخالفه دستور الولاية ، وفي قضية ( بيار ضد ينجل ستون) قضت محكمة ( كار ولينا الشمالية ) بعدم دستورية قانون صدر بملكية العقارات المشتراة من بين ما جرى مصادرتها من أموال خصوم الثورة .

إلا أن هذه الأحكام وحدت معارضة شديدة من قبل السلطة التشريعية وأهالي المقاطعات ، فقد ترتب على الحكم في قضية ( ترفيت ضد ويدن ) إن تم عزل سائر قضاة المحكمة من قبل المجلس التشريعي ورفض أهالي المقاطعة أعادت انتخابهم فتهيبت المحاكم من ذلك وكفت عن التصدي لهذه المسألة إلى أن أنشئت المحكمة العليا ، حيث بينت هذه المحكمة وبصورة صريحة موقفها من الرقابة القضائية على دستورية القوانين في قضية ( مار بوري ضد مادسون ) وتتلخص وقائع هذه القضية في أن الاتحاديين بزعامة ( جون آدمز ) بعد خسارتهم الانتخابات ، أعدوا برنامجا متكاملا للسيطرة على السلطة القضائية ، حيث أصدر الكونغرس في سنة 1801 قانونا جديدا لتنظيم السلطة القضائية ، وتضمن إنشاء ستة محاكم إقليمية جديدة ، واقتضى هذا الإنشاء تعيين ستة عشر قاضيا للعمل بها ، كما خول الكونغرس رئيس الجمهورية صلاحية تعين عدد أخر من القضاة في المحاكم الجزئية ، وقبل انتهاء فترة رئاسة ( جون آدمز) سارع إلى تعيين أثنين وأربعين قاضيا، لمقاطعتي واشنطن والإسكندرية في إقليم كولومبيا ، وأقر مجلس الشيوخ هذه التعيينات ووقعت قرارات التعيين وتم ختمها بختم الدولة ، إلا أن وزير الداخلية (مارشال) أغفل تسليم القضاة الجدد أوامر التعيين نظرا لحالة الاستعجال ، حيث لم يصدق رئيس الجمهورية على قرارات التعيين إلا في ليلة انتهاء رئاسته .

وعندما تولى الرئيس ( توماس جيفرسون) مهام عمله خلفا للرئيس ( جون آدمز) انتهز فرصة عدم تسليم قرارات التعيين للقضاة ، وأصدر تعليماته لوزير الداخلية ( ماردسون) بعدم تسليم أوامر التعيين للقضاة ( مار بوري ، ودينس رامزي وروبرت تاونسند هو ووليم هاربر) الأمر الذي اضطرهم إلى اللجوء إلى المحكمة العليا لاستصدار أمر منها لوزير الداخلية (مادسون) يقضي بتسليم أوامر التعيين بناء على سلطتها في إصدار هذا الأمر .

وقضت المحكمة بأحقية المدعين في التعيين ، لكنها رفضت إصدار أمر إلى وزير الداخلية بتسليم أوامر التعيين ، على أساس إن القانون التنظيم القضائي لسنة 1789 الذي يخولها سلطة إصدار الأوامر القضائية ، قانون غير دستوري ، لأن الكونغرس ليس له توسيع اختصاصاتها المحددة على سبيل الحصر في الدستور.

وظل القضاء الأمريكي مترددا في موقفه من الرقابة القضائية على دستورية القوانين حتى عام 1830 حيث لم يعد حق القضاء في الرقابة على دستورية القوانين محل خلاف ، إذ سارت المحاكم سيرا معتادا في مباشرة هذه الرقابة .

ومنذ نهاية القرن التاسع عشر حتى سنة 1936 توسعت المحاكم بشكل كبير في فرض رقابتها على القوانين ، الأمر الذي دعا الرئيس (روزفلت ) إلى القول أن ( الولايات المتحدة لا يحكمها سياسيون في البيت الأبيض والكونغرس وإنما يحكمها قضاة المحكمة العليا ) والواقع إن هذا التصريح لم يصدر عن الرئيس ( روزفلت) إلا تعبيرا عن امتعاضه من موقف المحكمة العليا بعدم دستورية هذه القوانين.

وعن الولايات المتحدة أخذت بعض الدساتير بنظام الرقابة القضائية على دستورية القوانين ومن بينها الدستور السويسري لسنة 1874 والدستور النمساوي لسنة 1920 والدستور الرماني لسنة 1923 والدستور التشيكوسلوفاكي لسنة 1930 والدستور الايرلندي لسنة 1937 والدستور الإيطالي لسنة 1947 والدستور الألماني لسنة 1949 والدستور التركي لسنة 1961 والدستور اليوغسلافي لسنة 1963.

ولم تكن الدساتير العربية بعيدة عن هذا النظام الرقابي ، فقد أخذ به كل من القانون الأساسي العراقي لسنة 1925 والدستور السوري لسنة 1950 والدستور الكويتي لسنة 1962 والدستور الليبي لسنة 1963 والدستور المصري النافذ لسنة 1971.

الفرع الثاني : أساليب الرقابة القضائية

يمارس القضاء الرقابة على دستورية القوانين بأحد الأساليب التالية :

أولا: الرقابة عن طريق الدعوى الأصلية ( الإلغاء )  

يوصف هذا الأسلوب من أساليب الرقابة القضائية بالهجومي ، كونه يخول صاحب الشأن الحق في الطعن بعدم دستورية القانون بصورة مباشرة أمام المحكمة المختصة ، طالبا إلغائه لمخافته الدستور ، دون أن ينتظر تطبيق القانون عليه وتوصف هذه الدعوى بأنها دعوى موضوعية باعتبار أن أثر حكم الإلغاء يسري في مواجهة الأفراد وسلطات الدولة كافة ( التشريعية – التنفيذية – القضائية )  إذ تكون السلطة التشريعية ملزمة بإعادة النظر في القانون المقضي بعدم دستوريته واستبداله بغيره ، ما لم يخول الدستور ذات المحكمة صلاحية إلغاء القانون المباشرة .

وعلى السلطة التنفيذية الامتناع عن تطبيق هذا القانون وتعديل كافة اللوائح والأنظمة الصادرة في ظله وبما ينسجم وقضاء المحكمة ، وعلى حد سواء مع السلطتين التشريعية والتنفيذية تلتزم السلطة القضائية بالامتناع عن تطبيق أحكام هذا القانون على المنازعات المعروضة أمامها من يوم القضاء بعدم دستوريته .

ورقابة الإلغاء قد تكون سابقة لصدور القانون ، ومن المسلم به أن الطعن في هذه الحالة يكون مقصورا على سلطات الدولة ( التنفيذية – القضائية ) دون الأفراد ، ففي السويد يقوم المجلس القانوني ، الذي يتكون من قضاة المحكمة العليان بدور فعال في مرحلة اقتراح القوانين ، حيث لا تعرض مشاريع القوانين على البرلمان ، إلا بعد أن يتشاور مجلس الدولة بشأنها مع المجلس القانوني ، إذ تعد هذه المشاورة جزءا من العملية التشريعية .

وقد تكون هذه الرقابة لاحقة لصدور القانون وفي هذه الحالة قد يخول الأفراد مع السلطات الدولة حق الطعن بعدم دستورية القانون .

ونظرا لخطورة الآثار المترتبة على دعوى الإلغاء والتي قد تنتهي إلى إلغاء القانون المطعون بدستوريته ، فقد تبنت الدساتير أساليب مختلفة لإضفاء الجدية على هذه الدعوى ، فمنها من قصر حق الطعن على هيئات الدولة دون الأفراد ن ومن هذه الدساتير الدستور التشيكوسلوفاكي لسنة 1920 والدستور النمساوي لسنة 1920 ودستور سنة 1945 والدستور السوري لسنة 1950.

ومنها من جعل الطعن على درجتين ، حيث أوجبت هذه الدساتير الطعن ابتداء أمام محاكم الدرجة الأولى ، فإذا وجدت هذه المحاكم إن القانون المطعون به محل شك في دستوريته ، إحالة الطعن إلى المحكمة العليا ، وإلا قامت برد الطعن بصورة مباشرة .

أما الاتجاه الثالث من الدساتير فأوجبت تقديم الطعن أمام أعلى هيئة قضائية ، كما في الدستور السويسري والدستور الأمريكي ، ومنها من أفراد محاكم خاصة للنظر في دستورية القوانين ، ومن بينها الدستور الإيطالي لسنة 1947 والدستور الأماني لسنة 1949 والقانون الأساسي العراقي  لسنة 1925 والدستور الكويتي لسنة 1962 والدستور المصري لسنة 1971.

ثانيا : الدفع بعدم الدستورية ( رقابة الامتناع ) ( الدفع الفرعي )

يعد هذا الأسلوب اقدم أساليب الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، إذ لا تحتاج المحكمة لممارسته إلى نص دستورية صريح يخولها هذه الصلاحية ، فهو يعد من تصميم اختصاصاتها ، فالمحكمة حينما تقضي بعدم دستورية القانون إنما تقضي في نزاع طرفاه قانونين مختلفين في السمو والمرتبة في سلم التدرج القانوني .

ويوصف هذا الأسلوب من أساليب الرقابة القضائية ، بالأسلوب الدفاعي ، كونه لا يرمي إلى إلغاء القانون ، وإنما يقتصر أثره على الامتناع عن تطبيقه على النزاع المعروض عن المحكمة ، هذا إضافة إلى أن هذا الطعن لا يمكن أثارته أمام المحكمة ما لم يكن هناك نزاع معروض عليها ويضار أحد طرفي النزاع من تطبيق هذا القانون .

كما أن صلاحية المحكمة تقف عند حد عدم تطبيق القانون المقتضي بعدم دستوريته على النزاع المعروض عليها دون أن تمتد صلاحيتها إلى إلغائه أو إلى الامتناع عن تطبيقه في النزاعات الأخرى ، فلذات المحكمة الفصل بالقانون في المنازعات الأخرى طالما لم يطعن أحد طرفي النزاع بعدم دستوريته ، ومن باب أولي للمحاكم الأخرى أحكامه في قضائها .

ويذهب جانب من الفقه إلى أن هذا الأسلوب الرقابي ، يؤدي إلى إلغاء القانون من الناحية الفعلية في بلدان السوابق القضائية كالولايات المتحدة ، باعتبار أن المحكمة الأعلى درجة تلزم نفسها في إحكامها اللاحقة بالقضاء بعدم دستورية القانون ، كما تلزم المحاكم الأدنى درجة منها بذات الحكم .

والأصل أن لكافة المحاكم النظر بالدعوى الفرعية ( عدم الدستورية) غير أن بعض الدساتير قصرت هذا الحق على أنواع ودرجات معينة من المحاكم ، ومن بينها الدستور الروماني لسنة 1923 الذي قصر هذا الحق على محكمة النقض تحديدا دون المحاكم الأخرى .

والملاحظ أن هناك اتجاه دولي متزايد لتبني هذا النوع من الرقابة القضائية ، حماية لمبدأ المشروعية وتداركا لعدم النص في الدستور على الرقابة على دستورية القوانين .

وتباينت الدساتير في تنظيمها لرقابة الامتناع ،فمنها من أشار إليها صراحة ، كالدستور الروماني لسنة 1923 والدستور البرتغالي لسنة 1933 والدستور الياباني لسنة 1946.

ومنها من لم يشر إليها صراحة ، إلا أن القضاء جرى على الامتناع عن تطبيق القانون المطعون بدستوريته ن كما في اليونان والنرويج وكندا واستراليا والعراق .

ثالثا : الأمر القضائي ( أوامر المنع )

الأمر القضائي بالمنع ، ( أمر يتخذ صيغة النهي الصريح يوجه إلى شخص ما لإنذاره بأنه إذا استمر بنشاط خاطئ معين أو إذا باشر نشاطا خاطئا فأنه يلتزم بالتعويض إضافة إلى تعرضه للعقاب على أساس أهانت القضاء ) على ذلك إن المحكمة لا تلجأ إلى إصدار أمر المنع إلا بتوافر ثلاث شروط :

  1. أن يقدم طلب إصدار أمر المنع من قبل صاحب المصلحة الذي تضار مصلحته من تطبيق القانون .
  2. أن يتعذر دفع الضرر إذا تم تطبيق القانون .
  3. أن يثبت للمحكمة أن القانون يخالف الدستور .

وبموجب أوامر المنع يلتزم الموظف المعني بتنفيذ الأمر الصادر إليه من المحكمة والإ عد مرتكبا لجريمة احتقار المحكمة ، وتعتبر أوامر المنع ضمانه عامة تصلح لحماية سائر الحقوق ، إلا أنها وسيلة احتياطية لا يجوز اللجوء إليها إلا إذا تعذر تقديم الحماية الكافية عن طريق قواعد القانون .

وتقسم أوامر المنع إلى نوعين ، الأولى ، مؤقتة تصدر أثناء إجراءات دعوى مبتدأه ، تسمع فيها المحكمة الخصوم قبل إصدار أوامرها وتسمى والثانية ترفع بها الدعوى مبتدأه تسمع فيها المحكمة الخصوم قبل إصدار أمرها وتسمى (Prepetural).

وبالرغم من خلو الدستور الأمريكي من نص صريح يمنح المحكمة صلاحية إصدار أوامر المنع إلا أن القضاء الأمريكي تبنى هذا الطريق الرقابي منذ أواخر القرن التاسع عشر ، وأطلق عليه الإيعاز القضائي أو التنبيه أو النهي أو الأمر القضائي .

وأول الأوامر القضائي التي صدرت في الولايات المتحدة ، صدر سنة 1824في قضية ومن الأوامر القضائية الشهيرة الآمر الصادر سنة 1952 في قضية الصلب وتتلخص وقائع هذه القضية ، في أن شركة الصلب تقدت إلى المحكمة بطلب إصدار أمر قضائي إلى وزير التجارة يقضي بمنعه من تنفيذ الأمر الصادر إليه من الرئيس ( ترومان) بالاستيلاء على مصانع الصلب وإدارتها تحت إشراف الوزارة ، وذلك تأسيسا على عدم دستورية ذلك القرار واحتج الدفاع بأن المحكمة ليس لها إصدار أمر المنع في مواجهة قرارات الرئيس ، غير أن المحكمة الاتحادية الدنيا التي عرض عليها النزاع أول مرة قضت بأن رئيس الجمهورية ليس طرفا في الدعوى وإن الأمر الذي صدر إلى وزرائه ، ليس أمرا موجها إليه .

وفي الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي جرت سنة 2000 والتي تنافس فيها المرشحان الجمهوري ( جورج بوش الابن ) والديمقراطي ( آل كور ) تقدم المرشح ( جورج بوش الابن) إلى المحكمة الاتحادية العليا بطلب إصدار أمر قضائي إلى محكمة ولاية فلوريدا ، بوقف أمرها القاضي بإعادة فرز الأصوات يدويا في الولاية ، حيث أصدرت هذه المحكمة أمرا بإعادة الفرز يدويا بناء على طلب المرشح الديمقراطي ( آل كور ) واستجابة المحكمة الاتحادية العليا لطلب المرشح الجمهورية ( جورج بوش الابن) وأصدرت أمرا قضائيا بوقف الفرز اليدوي ، وعلى أثر هذا الأمر ، أعلن المرشح ( جورج بوش الابن ) رئيسا للولايات المتحدة .

تبنى القضاء الأمريكي منذ سنة 1918أسلوبا أخر من أساليب الرقابة على دستورية القوانين، وهذا الأسلوب هو أسلوب الحكم التقديري ، بموجب هذا الأسلوب لأي من أطراف العلاقة القانونية اللجوء إلى المحكمة لاستصدار حكم بعدم دستورية القانون الذي يحكم هذه العلاقة القانونية وينظم الحقوق والالتزامات الناشئة عنها ، وعلى الموظف المختص بتنفيذ القانون ، الامتناع من تلقاء نفسه عن تطبيقه ( تطبيق القانون ) بمجرد علمه برفع الطلب إلى المحكمة لحين إبداء المحكمة رأيها في القانون والعمل بموجب ذلك .

والملاحظ إن المحكمة العليا كانت قد ترددت في قبول الحكم التقريري كوسيلة من أساليب الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فامتنعت في البداية عن تبني هذا الطريق الرقابي ، على أساس أن وظيفة المحكمة لا تمتد إلى البحث في المسائل النظرية المجردة ، ففي قضية (جرانس) ذهب المحكمة العليا ، إلى أن الأحكام التقريرية لا تعد أحكاما قضائية بالمعنى الصحيح ، وهي أقرب إلى الآراء الاستشارية منها إلى الأحكام القضائية ، من هنا ليس للقضاء النظر فيها .

ولم تعدل المحكمة العليا عن موقفها هذا إلا سنة 1934 حيث صدر في هذه السنة قانونا عن الكونغرس، يخول المحاكم الاتحادية صلاحية إصدار الأحكام التقريرية في المسائل المتعلقة بدستورية القوانين ، وعملا بأحكام القانون المذكور قضت المحكمة الاتحادية العليا سنة 1937 في قضية ( شركة أتنا للتأمين ضد هاروث ) بدستورية القانون الواجب التطبيق على النزاع .

الكاتب: nibal بتاريخ: الثلاثاء 18-12-2012 08:22 مساء  الزوار: 6314    التعليقات: 0



محرك البحث
الحكمة العشوائية

قَالَ جُبران: جميل أن تُعطي مَن يسألك، وأجمل منه أن تعطي مَن لا يسألك وقد أدركت حاجته. ‏
تطوير تواصل بإستخدام برنامج البوابة العربية 3.0 Copyright©2012 All Rights Reserved